هذا هو نبينا هو محمد بن عبدالله ﷺ، الذي أمضى ٣١ عامًا في مكة يدعو، سلاحه الوحيد الكلمة، والإقناع. كذبه الوثنيون، وشتموه، وضربوه، وحاولوا اغتياله، وسحلوا أصحابه، واغتالوا بعضهم، فلم يمد يده إلى أحد بسوء، لم يرفع سلاحًا أو يغتال أحدًا انتقامًا، أو يحرض على الانتقام، ولما استقبله أكرم أهل الأرض (الأنصار) في يثرب مقتنعين، أسس دولة الإسلام على أرضهم بالكلمة، دون أن يريق قطرة دم واحدة، أسسها بالمعاهدات والوثائق، فعاش شعب مكون من يهود ووثنيين ومسلمين، فحاول استصلاحهم جميعًا والتأليف بينهم، مضيفًا إلى سلاح الكلمة الذي حمله من مكة سلاحًا آخر أمضى: (سلاح العدل). لم يبنِ سجنًا أو قصرًا، بل كان بيته، وهو طريد بمكة أكبر من بيته وهو حاكم في المدينة، أسرت رحمته قلوب الناس لما رأوا وجهه يتلوّن حزنًا، حين رأى وثنيين حفاة عراة جائعين ليسوا من شعبه، فلم يقر له قرار حتى أشبعهم، وكساهم، وطيب خواطرهم. انشغل بتشييد دولة الإسلام، وتناسى اضطهاد طغاة قريش، لكنهم منعوه، ومنعوا أصحابه من حقهم في زيارة بيت الله، وحرضوا عليه قبائل العرب، وتعاون اليهود معهم، فوقع معاهدة وطنية تكفل حريتهم وأمنهم، فاستغلوا عدله، وخانوا المعاهدة، واتصلوا بمعظم القبائل الوثنية وحرضوها، حتى تمكنوا من تحويلها إلى جيوش تحاصره مع أصحابه، فاضطر إلى حمل السلاح دفاعًا عن دينه ووطنه، وخاض حروبًا كان رجال أسرته في مقدمتها، وفقد كثيرًا منهم، وحين دانت له الجزيرة العربية لم يتعطش للانتقام، فقد انشغل بالبناء والحفاظ على الأرواح، ووقع معاهدة صلح مع طغاة قريش، فأملوا عليه شروطهم، وهم في أشد حالات الضعف، ووافق وهو في أقصى حالات القوة، ومع ذلك فتح مكة، وعندها لم يغتصب بيتًا أو أرضًا، بل لم يجد مكانًا يبيت فيه بمكة، ثم رحل ﷺ عن الدنيا وهو يحكم الجزيرة كلها، رحل دون أن يسكن قصرًا، أو يلبس ذهبًا أو حريرًا أو يشبع من خبز رقيق، أو يبيت ليلة وفي رصيده دينار أو درهم، أو في ملكه عبد أو أمة، رحل ودرعه مرهونة عند تاجر يهودي مقابل كمية من الشعير طعامًا لزوجاته، أما شعبه فتركهم وهم أنظف الشعوب وأكثرها نظامًا وثقافة، رحل ﷺ جسدًا، لكنه لا يزال شمسًا لا تعرف المغيب: توحيدًا وأخلاقًا وعدلًا ورحمة للعالمين. العبيكان للنشر